عاش طيلة حياته السينمائية مختبئاً معظم الوقت خلف قناع الرجل الطائر، أنجز سلسلة أفلام تحت هذا الاسم وحقق شهرة طاغية، سرقته السنون، نظر خلفه، بحث فى ماضيه وتساءل: هل ما قدمته فن حقيقى، أو هو الفن الذى كنت أريده؟ هل رصيد الشهرة يغفر لى الخصم الهائل من رصيد الفن وانخفاض سقف طموحى إلى درجة انحسارى وانحصارى فى خانة المسلواتى؟!، قرر أن يكتب ويخرج ويمثل مسرحية على مسرح برودواى، لكى يثبت للناس أنه فنان بجد، وأنه كان يستحق أكثر من ذلك، وأن على الجميع أن ينظر إليه من الآن فصاعداً على أنه ريجان الفنان وليس ريجان الرجل الطائر الذى يوسوس له على الدوام لا بد أن تعود إلى قناع الرجل الطائر ثانية، عندما شاهدت فيلم «الرجل الطائر»، الذى يستحق وبجدارة كل ما حصده من جوائز أوسكار قفزت إلى ذهنى عدة أسئلة، بعضها فنى والبعض الآخر فلسفى، على رأس الأسئلة الفنية: لماذا نهمل سن ما بعد الستين ومشاكله وقضاياه فى أفلامنا السينمائية، ولا نفعل مثلما فعل هذا الفيلم الرائع الذى قام ببطولته «مايكل كيتون» ببراعة وكان شجاعاً فى تجسيده لدور يلخص قصة حياته الفعلية ومسيرته السينمائية فقد خفتت وخبت الأضواء عنه فعلاً وفى الواقع بعد بطولته لفيلم باتمان وابتعاده فترة طويلة بعدها، أو بالأصح عدم حصاده لنفس الشهرة والبريق والنجاح وكأن باتمان قد صار اللعنة الأبدية وبيضة الديك المتفردة التى لا تتكرر، الرجل الكبير فى السن وأيضاً السيدة العجوز مجرد سنيدة فى الأفلام المصرية، مجرد إكسسوار وحلية وفاسوخة وشىء لزوم الشىء، لا يكتب لهذه السن أفلام خاصة، وتظل قدرات هائلة تستنفد فى لا شىء، وطاقات تمثيلية رائعة مثل حسن حسنى وغيره تهدر فى مساحات إبداع ضيقة خانقة يضطرون إلى قبولها من أجل لقمة العيش، الفيلم مبهر فى طريقة تصويره التى نُفذت وكأنها لقطة طويلة متصلة أو مشهد مستمر لا تحس بقطع مونتاج فيه مما يذكرك بفيلم الحبل لهيتشكوك وإن انتصر فارق السنين والتقنيات لصالح الرجل الطائر، يتماس الفيلم مع قضايا فنية وإنسانية عديدة وجديدة، العلاقة بين الناقد والفنان، يقابل بطل الفيلم وهو فى ذروة توتره استعداداً للمسرحية ناقدة فى أحد البارات تقول له وبحسم وقبل مشاهدة المسرحية: «سأقتل مسرحيتك فى المهد»، يضبطها تكتب عبارات مكررة وانطباعات عامة من الممكن أخذها فوتوكوبى كما هى فى نقد أى مسرحية أخرى، يدور حوار بينه وبينها فى منتهى الأهمية يلخص تلك العلاقة المعقدة بين النقد والفن، علاقة بطل الفيلم بابنته المدمنة التى تعرى هشاشته وتفضح ادعاءه، وتواجهه «أنت تريد فقط الشهرة على حساب الفن»، أنت ستفشل، لأنك حاولت بعد فوات الأوان. أهمية التوقيت بالنسبة لقرارات واختيارات الفنان شىء مهم، لا ينفع مع الفن حكمة أن تأتى متأخراً خير من ألا تأتى، الجمهور لا يرحم ولا يتسامح وهو سريع الملل وقاسى الأحكام، علاقته مع الممثل الثانى فى العرض، شاب مجنون تمثيل يؤمن بالتقمص الشديد للدور، نشط الذاكرة، حيوى، يمتلك حرارة إرسال فنى تسحب الأضواء من الرجل الطائر، يسرق الأضواء ويسرق أيضاً قلب ابنته وجسدها، يسخر الممثل الشاب من الرجل الطائر قائلاً: مسدسك فى العرض المسرحى فشنك لا يثير طاقتى التمثيلية، يقرر أن يحشوه برصاص حقيقى، يطلق الرصاص على نفسه داخل العرض، يصاب أنفه فيرتدى قناعاً من الشاش والقطن، يذكرنا هذا القناع الطبى بقناعه السينمائى القديم، يتخلص من قناع الشاش والقطن، يقف على شباك حجرته فى المستشفى ليحلق طائراً، نهاية الفيلم المفتوحة هى نظرة ابنته إلى الشارع وإلى السماء بابتسامة، هل هى ابتسامة تحرر الأب وقدرته على التحليق خارج دائرة أحلامه المجهضة؟ أم هى ابتسامة رثاء وتعاطف؟ كل منا يريد أن يطير ويحلق بعيداً عن سجن الأقنعة المزيفة التى يرتديها كل منا من أجل إرضاء مجتمعه، لكنه يخاف مصير عباس بن فرناس الذى نظر إلى السماء ولكن حلمه تحطم على الأرض.